المواصي- من جنة غزة إلى مسرح الرعب والإبادة المستمرة

المؤلف: غادة عقيل10.21.2025
المواصي- من جنة غزة إلى مسرح الرعب والإبادة المستمرة

إن الهجمات المتواصلة على منطقة "المواصي" وغيرها من المناطق المصنفة كـ "آمنة" تكشف بجلاء أن الهدف الأسمى لإسرائيل لا يقتصر على تصفية حركة حماس، بل يتعداه إلى محو الوجود الفلسطيني بأكمله. كانت "المواصي" جنة ساحلية فريدة في قطاع غزة، بشريطها الساحلي الذي يمتد على مسافة تقارب 12 كيلومترًا بين خان يونس ورفح، وتلالها الرملية الذهبية التي تأسر الألباب، ومناظرها الطبيعية التي تبعث في النفس السكينة والجمال. لطالما كانت هذه المنطقة ملاذًا للعائلات الباحثة عن الراحة والاستجمام.

لكن "المواصي"، هذا الملاذ الوادع، لم يعد له وجود. فقد حولته آلة الإبادة الجماعية الإسرائيلية من بقعة للترفيه إلى ساحة للرعب المروع. ففي أواخر أكتوبر/تشرين الأول، عندما كانت الطائرات الإسرائيلية تمطر قطاع غزة بوابل من القنابل والصواريخ، أعلنت قوات الاحتلال الإسرائيلي "المواصي" "منطقة آمنة"، يمكن للمدنيين الفلسطينيين الهاربين من العدوان أن يحتموا بها، وزعم القادة الإسرائيليون لاحقًا أنهم يعتبرونها "ملاذًا آمنًا دائمًا".

إلا أنه بسبب الغياب شبه التام للبنية التحتية في "المواصي"، حذرت المنظمات الإنسانية من أنها مكان غير صالح لإقامة مخيم للنازحين. ورغم ذلك، تدفق إليها مئات الآلاف من الفلسطينيين الفارين من جحيم مدينة غزة، ومن خان يونس، ومن رفح، وأقاموا ملاجئ بدائية باستخدام الأغطية البلاستيكية والبطانيات الرثة لحماية أسرهم من قسوة الظروف. عاش سكان المخيم حياة بائسة يملؤها الجوع القاتل والمرض المستشري والعطش الذي لا يروى.

ولم يمض وقت طويل حتى تجلى زيف ادعاء "المنطقة الآمنة الدائمة". ففي شهر فبراير/شباط، شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي هجومًا على "المواصي"، استهدف حتى منزل موظفي منظمة أطباء بلا حدود، وأفراد أسرهم العزل، مما أسفر عن مقتل شخصين، وإصابة ستة آخرين، من بينهم نساء وأطفال أبرياء. وفي أواخر مايو/أيار، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي المنطقة مرة أخرى بوحشية، مما أدى إلى مصرع ما لا يقل عن 21 فلسطينيًا، من بينهم 12 امرأة، وذلك بعد أيام قليلة من إصدار محكمة العدل الدولية أمرًا لإسرائيل بوقف الإبادة الجماعية في رفح.

وفي الحادي والعشرين من يونيو/حزيران، عاودت قوات الاحتلال الإسرائيلي الهجوم على "المواصي"، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 25 فلسطينيًا وإصابة 50 آخرين بجروح. هذه ليست سوى أمثلة معدودة على الهجمات المتكررة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي لم تحظ بتغطية إعلامية كافية من قِبَل وسائل الإعلام الغربية، ولم يتم تقديم سوى القليل من التفاصيل عنها، متجاهلة النفي الإسرائيلي المتكرر.

شهادات حية

في السابع والعشرين من يونيو/حزيران، استقبلت رسالة من طبيب من أقاربي، كاد قلبي أن يتوقف وأنا أقرأ وصفه المرعب لهجوم آخر على "المواصي"، حيث استهدفت قوات الاحتلال هذه المرة منطقة الشاكوش والمنتزهات الإقليمية. "هذه المناطق مكتظة بالنازحين والخيام والعُرُش والملاجئ المؤقتة. الناس يعيشون فوق بعضهم البعض"، جاء في الرسالة: "دخلت الدبابات دون سابق إنذار ودهست بعض الخيام وفتحت نيران أسلحتها بشكل عشوائي. رأيت الناس يفرون مذعورين. تمكن البعض من حمل بعض متعلقاتهم الشخصية، في حين غادر آخرون بلا شيء على الإطلاق. لقد فروا من أجل إنقاذ حياتهم".

وأضاف الطبيب المصدوم: "كثيرون انبطحوا على الأرض لتجنب الرصاص المتطاير. لجأ آخرون إلى أي ملجأ متاح، بينما جلس البعض الآخر في الشارع، ينتظرون نهاية ما بدا وكأنه كابوس سرمدي لا نهاية له". وتابع واصفًا المشهد المأساوي: "اليوم ذهبت إلى المستشفى وشاهدت أعدادًا كبيرة من المصابين القادمين من تلك المنطقة. هذه العملية المستمرة لمطاردة الناس واضطهادهم وصيدهم من مكان إلى آخر على غرار اصطياد الوحوش لفرائسها أمر يفوق قدرتي على الفهم والاستيعاب".

وفي اليوم التالي، تلقيت شهادة من طبيب آخر كان شاهدًا على الأحداث المروعة التي جرت في الشاكوش. كان عائدًا من مناوبته في المستشفى عندما بدأت الدبابات الإسرائيلية تتقدم من اتجاهات مختلفة، وهي تطلق النيران بشكل عشوائي دون أي تحذير مسبق. ركض لإنقاذ عائلته، وتمكن بأعجوبة من إخراجهم من المنطقة الخطرة. اندلعت النيران وتحول المشهد إلى جحيم حقيقي لا يطاق.

وفي حالة من الهلع والذعر الشديد، ترك الناس جميع ممتلكاتهم، بل إن بعضهم فروا مذعورين وذهلوا عن أطفالهم قبل أن يسارعوا للعودة إليهم. وأثناء الجري، كان الطبيب يسارع إلى مساعدة الناس في تحميل الموتى والجرحى على عربات تجرها الحمير، لكنه لم يتمكن من تقديم أي مساعدة طبية. ومثل الآخرين، ركض بأقصى سرعة لإنقاذ حياته وحياة عائلته. وبمجرد وصولهم إلى ما اعتقدوا أنه مكان آمن، فقدت زوجته الوعي من شدة الرعب والصدمة.

وأفادت الأمم المتحدة بسقوط "عشرات الضحايا" ونزوح ما لا يقل عن 5000 شخص؛ بسبب الهجوم الإسرائيلي الجديد على "المواصي". وتحدثت مصادر طبية عن مقتل 11 شخصًا على الأقل وإصابة 40 آخرين بجروح متفاوتة.

وبعد أيام قليلة من مجزرة "المواصي" المروعة، في الأول من يوليو/تموز، انتقل مشهد الدمار والرعب إلى الجزء الشرقي من مدينة خان يونس التي كانت تعتبر في الماضي من أجمل المناطق في قطاع غزة، وصدرت أوامر بإخلاء بلدات عبسان وبني سهيلة وخزاعة وحي الفخاري الذي يضم المستشفى الأوروبي.

وجاءت أوامر قوات الاحتلال في ساعات المساء المتأخرة، دون أن تترك أي وقت للأهالي لحزم أمتعتهم وحاجياتهم الضرورية، ليواجهوا محنة شديدة وسط أنقاض منازلهم المدمرة وخيامهم المؤقتة، لدرجة أن أحد الأقارب وصف الأمر كما لو كانوا يعيشون "يوم القيامة" بكل ما يحمله من فزع ورعب.

وأجبرت قوات الاحتلال الإسرائيلي – وفقًا لتقارير الأمم المتحدة – ربع مليون شخص على مغادرة خان يونس، واضطر المستشفى الأوروبي أيضًا إلى الإخلاء بشكل عاجل، حيث تم نقل العديد من مرضاه من قِبل عائلاتهم إلى مستشفى ناصر المدمر، الذي كان هو الآخر مسرحًا لمذبحة مروعة وقعت مؤخرًا.

وفي عملية النزوح القسري، التي تذكرنا بعمليات النزوح الجماعي السابقة التي شهدتها الأشهر التسعة الماضية، توافد الناس على "المواصي" عائدين بعد أن غادروها قبل أسابيع إلى أنقاض منازلهم في خان يونس؛ لإفساح المجال للأشخاص الفارين من رفح، وذلك بسبب ادّعاء قوات الاحتلال أن الوضع آمن لسكان رفح الفارين إلى هناك وكذلك إلى "المواصي".

وكما هو الحال مع كل عملية نزوح قسري، يتحمل الناس عذابًا مضاعفًا يتمثل في البحث اليائس عن أفراد الأسرة – أحياء أو أمواتًا – أثناء سعيهم الحثيث عن مأوى مؤقت جديد، وتأمين المياه والغذاء والمراحيض وغيرها من الضروريات الأساسية.

ووصف لي إخوتي وعائلاتهم، الذين نزحوا إلى "المواصي" منذ شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وجوه الأطفال والنساء والرجال والمرضى والمسنين المرتعبة، وهم يتجولون في الشوارع بلا هدف أو وجهة. واليوم، أُجبر تسعة من كل عشرة فلسطينيين في غزة على الفرار من منازلهم بحثًا عن الأمان المفقود، والانتقال المستمر من مكان إلى آخر، ومن خيمة متواضعة إلى خيمة أخرى أكثر تواضعًا، ليتعرضوا للهجوم ويُجبروا على الفرار مرة أخرى في دوامة لا تنتهي من الخوف والمعاناة. إن جميع سكان قطاع غزة، وأكثر من نصفهم أطفال أبرياء، يتعرضون لمستويات من القسوة والوحشية تفوق الخيال مع أنها حقيقية وملموسة للغاية.

حرب على البشر والشجر والحجر

إن الهجمات المنهجية والمستمرة على الفلسطينيين في المناطق التي يزعمون أنها "مناطق آمنة"، يقترن بتدمير ممنهج للبنية التحتية المدنية، لا يوجد له أي مبرر عسكري على الإطلاق، ويبدو أنها تهدف فقط إلى قتل وترويع أكبر عدد ممكن من المدنيين الأبرياء. أخبرتني أختي بقلب دامٍ أنهم الآن جميعًا ينتظرون الموت المحتوم، وهم مستعدون نفسيًا لمواجهة أي نوع من أنواع الموت البشع، "لكن ربما الأقسى والأكثر إيلامًا هو الموت الناتج عن الظلم والقهر".

نعم، يموت الفلسطينيون بسبب القنابل الإسرائيلية والرصاص الإسرائيلي الغادر، ولكنهم يموتون أيضًا بسبب الشعور العميق بالقمع والاضطهاد. إنه ذلك الشعور الذي لا يطاق، الذي يخنق الأنفاس عندما تشهد الإبادة الجماعية المستمرة ساعة بعد ساعة، وتدرك أن الدور عليك وعلى عائلتك قادم لا محالة ولا تستطيع إيقافه بأي وسيلة. إنه الشعور المؤلم الذي لا يحتمل عندما تسمع صرخات الجرحى وهم يحتضرون من شدة الألم، وترى أطفالاً فقدوا أطرافهم البريئة، وتعرف أنك عاجز تمامًا عن مساعدتهم. إنه شعور قاسٍ ومذل عندما تعلم أن العالم بأسره ظل يتفرج على هذه الإبادة الجماعية الوحشية على مدار تسعة أشهر دون أن يحرك ساكنًا لوقفها.

ويعتقد الفلسطينيون جازمين أن قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدف إلى تدمير "البشر والحجر والشجر"، أي تدمير كل شيء يقف أمامها. وبعد دخول الحرب شهرها العاشر المأساوي، أصبح من الواضح تمامًا أن هذا العدوان الغاشم ليس موجهًا ضد حركة حماس فقط، بل هو حرب شاملة ومفتوحة على الوجود الفلسطيني برمته.

وقد أكد خبراء حقوق الإنسان هذا الاستنتاج المؤلم. وقالت المحامية الجنوب أفريقية القديرة عادلة هاشم أمام محكمة العدل الدولية خلال جلسة استماع عقدت في شهر يناير/كانون الثاني الماضي بشأن قضية الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل: "إن هذا القتل الممنهج لا يقل بحال من الأحوال عن تدمير حياة الفلسطينيين ومحو وجودهم".

إن تقاعُس العالم الغربي وتواطؤه المخزي، وعدم إجراء تحقيق نزيه ومستقل في هذه الجرائم المروعة، وتباطؤ الإجراءات في الهيئات الدولية، بما في ذلك التأخير غير المبرر في إصدار مذكرات الاعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت في المحكمة الجنائية الدولية، كلها أمور تعكس تجاهلًا صارخًا للمساءلة والعدالة. إن الاستهداف المتعمد والممنهج للحياة الفلسطينية ليس مجرد انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي فحسب، بل هو اعتداء سافر على المبادئ الأساسية للكرامة الإنسانية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة